المسمار المستقيم والحلزوني وفلسفة الصلابة والمرونة

 

 

د. هبة محمد العطار

 

يظن الكثيرون أن الاستقامة وحدها كافية للثبات والمرور الآمن في الحياة، فيتشبثون بأن يكونوا مثل المسمار المستقيم، واضحين صريحين، لا اعوجاج فيهم، يطرقون ويسلكون طريقهم بثقة حتى يخترقوا جدار العالم، لكنهم لا يدركون أن الصراحة المفرطة والنقاء الصلب لا يحتملهما الواقع دائمًا، فالمسمار المستقيم مهما كان قويا، إن استمر عليه الضغط انكسر أو انقطع، ويُرمى جانبا بعد أن يفقد القدرة على الاستمرار. نقية هي استقامته، لكنها نقاء يفتقد الذكاء، ويصطدم بالواقع فينكسر كما يُكسر المسمار الذي لم يحسن الانغراس.

أما المسمار الحلزوني؛ فهو نموذج الحكمة في الحركة، يعرف أن الخط المستقيم لا يوصل دائمًا، فيسلك طريقه الملتف أحيانا بخفة ودراية، يدخل الخشب لا بقوة المطرقة؛ بل بفن الدوران، يتقدم بثبات لا يُحدث جرحًا ولا ضجيجًا، لأنه أدرك سر التفاهم مع ما حوله، يتحاور مع الواقع حتى يحتل مكانه العميق، ويظل ثابتًا لا يُكسر ولا يُرمى، لأنه لم يختر الحرب؛ بل اختار الفهم.

الفرق بين المسمارين ليس في المعدن؛ بل في الفهم، فالاستقامة الصارمة قد تجعلنا نطرق حتى ننكسر، بينما المرونة الواعية تجعلنا ندور حتى نستقر. الإنسان في جوهره كائن يسكنه الصراع بين الثبات والتحول، يريد أن يكون صادقًا مع نفسه كالمسمار المستقيم، وفي الوقت ذاته يحتاج أن يعرف كيف ينجو وسط عالم لا يرحم النقاء. كل يوم اختبار جديد بين أن يكون كما هو أو أن يتشكل كما يقتضي الموقف.

الصلابة تمنحنا الإحساس بالقيمة لكنها أحيانًا تُفقدنا القدرة على البقاء، أما المرونة فتعطينا مساحة للفهم لكنها قد تجرنا نحو التنازل إن لم يضبطها الوعي، لذلك يعيش الإنسان بين طرفين: قسوة الاستقامة المطلقة وارتخاء الانحناء الكامل، والحكمة أن يظل في المنتصف ثابت الجذر، مرن الغصن، صلب في المبدأ، لِين في الأسلوب، تلك هي المعادلة التي لا يتقنها إلا من فهم نفسه والعالم معًا.

الحياة لا تختبرنا في لحظة انتصار؛ بل في لحظة ضغط، حين تطرق أرواحنا كما يطرق المسمار لنرى هل سننقطع أم نلتف لنكمل الطريق، الذكي لا يقاوم المطرقة؛ بل يجعل منها إيقاعًا يعيد تشكيله؛ فالقوة الحقيقية ليست في أن تبقى كما كنت؛ بل أن تتغير دون أن تفقد نفسك. نحن لا نهزم حين ننحني قليلًا؛ بل حين نكف عن المحاولة، فالتاريخ لا يذكر من وقف في وجه الريح حتى كسر؛ بل من انحنى بوعي حتى عبر. ليس كل انحناء ضعفًا، كما أن ليس كل صلابة قوة، أحيانًا يكون الانحناء لحظة وعي ينجو فيها العاقل مما يكسر الجاهل.

الشجرة التي تتمايل أمام العاصفة لا تسقط، بينما التي تتحدى الريح تتشقق من الداخل وإن بدت ثابتة؛ فالمرن لا يعني المتنازل بل من يفهم الإيقاع الخفي للعالم، ويعرف أن البقاء لا يعني الثبات في المكان؛ بل الثبات في المعنى، الانحناء الواعي فعل نبل لا خضوع، إنه انحناءة القلب أمام التجربة كي لا ينكسر، وانحناءة الفكر أمام الحقيقة كي لا يتعالى، وانحناءة الإنسان استقامة قوية امام الظروف وضرورات الحياة كي يظل فيها إنسانًا.

نحن جميعًا مسامير في جدار الوجود، نثبت بمعرفة أو نكسر بجهل، من أدرك شكله وحركته انغرس في موضعه بسلام، ومن قاوم طبيعته تكسّر تحت أول مطرقة؛ فالحكمة ليست في القوة بجمودها، بل في الانسجام مع قوانين الحياة التي لا ترحم من يجهلها، والذين عرفوا سر المرونة الذكية لم يسقطوا يومًا؛ بل تعلموا كيف يطيرون.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة